عدد المساهمات : 1302 الموقع : https://assil.mam9.com/ تاريخ التسجيل : 02/11/2013 نقاط : 3394 السٌّمعَة : 3
موضوع: وما ارسلناك الا رحمة للعالمين 6 الثلاثاء نوفمبر 12, 2013 2:03 pm
رحمته في العبادات
وأردف قائلاً: ثم ماذا علَّم محمد الناسَ في مدرسته غير هذا من أبواب الرحمة؟ قلت: لقد علَّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناسَ في مدرسته الرحمةَ في العبادات. قال: وهل في العبادات قسوة ورحمة؟! قلت: أجل، فكثير من الناس يظنون أن التشديد على النفس، وإنهاك الجسم بالعبادة، والمبالغة في العزوف عن الدنيا، أمور يحبها الله سبحانه، بينما الحقيقة التي تَعلّمها الناس في مدرسة محمد، تقول غير هذا. قال: وماذا تقول؟ قلت: تقول: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان أرحم بالمؤمنين منهم بأنفسهم. قال: كيف؟ قلت: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنّهم تقالّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي، قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً. وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[1]. وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « يا عبد الله أَلَم أُخبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل. فقلت: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقُم ونَم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لِزَوْرِكَ عليك حقاً. وإنَّ بحسبك أن تصوم كلَّ شهر ثلاثة أيام، فإنَّ لك بكل حسنة عشرَ أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله - قال عبد الله: فشدّدتُ فشُدِّد علي – قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة. قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه. قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال: نصف الدهر - أي يصوم يوماً ويفطر يوماً -»، فكان عبد الله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رُخصة النبي[2]. وروت زوجة النبي (صلى الله عليه وسلم) السيدة عائشة قالت: «كان عندي امرأة من بني أسد، فدخل عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: من هذه؟ قلت: فلانة، لا تنام الليل، فذكرتُ من صلاتها... فقال: مَه، عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا»[3]. وروي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه خرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم - في الليلة التالية - فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثُر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله - أي لم يتسع لهم لكثرتهم - حتى خرج لصلاة الصبح - أي لم يخرج لصلاة الليل - فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهّد ثم قال: «أما بعد، فإنه لم يَخفَ عليَّ مكانكم، ولكنني خشيت أن تفرض عليكم - أي صلاة الليل - فتعجزوا عنها»[4]. وروي عنه أنه دخل المسجد ذات مرة، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: «ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا لزينب[5] فإذا فترت تعلقت به. فقال: لا، حُلُّوه، ليُصَلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فَتَر فليقعد»[6]. * * * وأردفتُ: حتى إطالة الإمام في الصلاة كان ينهى عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رحمةً بالمأمومين، فعن أبي مسعود قال: «قال رجل: يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان - أي الإمام - فيها. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئذ. ثم قال: أيها الناس، إن منكم منَفِّرين، فمن أَمَّ الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجة »[7]. وروي عنه أنه قال: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه»[8]. وأردفت: بل هو لم يرضَ الإطالة المبالغ فيها حتى للمنفرد، رحمة به، وإقراراً للمبدأ الإسلامي العام في التيسير، رحمةً بالناس، فقد بلغه أن رجلاً في المسجد يطيل الصلاة، فأتاه فأخذ بمنكبه ثم قال: «إن الله رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لهم العسر - قالها ثلاث مرات - وإن هذا أخذ بالعسر وترك اليسر»[9]. وبما أن الصلاة ركنٌ أساسٌ من أركان الإسلام، ويتكرر أداؤها كل يوم خمس مرات... فإنَّ ربطها بمكان محدد قد يكون فيه شيء من المشقة على الناس، لهذا فإن تعاليم مدرسة محمد (صلى الله عليه وسلم) قد رحمت الناس حتى في هذا، فعلَّمت المسلمين أن بإمكانهم أداء الصلاة في أي مكان وُجِدوا فيه، طالما أنه طاهر من النجاسات. فقد روي عنه أنه قال: «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ»[10]. بل مِن فَرْط رحمته (صلى الله عليه وسلم) بالناس، أنه رحمهم حتى في الأمور التعبدية السهلة جداً فقال: «لولا أن أشق على المؤمنين لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»[11]. وهل في تنظيف الأسنان بالسواك مشقة بالغة؟! قال الأب ستيفانو: هنيئاً لكم عبادتكم يا أتباع محمد. زدني من هذه الرحمة. * * * قلت: لم تقتصر رحمته (صلى الله عليه وسلم) على الأمور المقررة في العبادة ذاتها، بل تعدت هذا إلى الرحمة حتى في تعليمه الناسَ العبادة. قال: كيف؟ قلت: جاء عن الحكم السُّلَمي أنه قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم! فقلت: واثُكل أُمَّياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يُصَمِّتونني سكتُّ، فلما صلى رسول الله، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، بل قال: إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»[12]. وجاء عن أنس بن مالك قال: «بينما نحن جلوس في المسجد مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد. فقال أصحاب رسول الله: مَه، مَه! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): لا تُزْرِموه - أي لا تقطعوا عليه بوله - دعوه. فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دعاه فقال: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن. قال فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه على البول»[13]. * * * وأردفت: هذا عن رحمته الناس في عبادة الصلاة، أما عن رحمته الناس في عبادة الصيام، فقد كان لا يرضى لهم الصيام في السفر، لما فيه من المشقة على المسافر - وبخاصة إلى ما قبل حوالي مئة عام أوائل القرن العشرين المسيحي- فقد روي عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه كان ذات مرة في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا صائم. فقال: «ليس من البر الصوم في السفر»[14]. وخرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم - وادٍ بين مكة والمدينة - فصام الناس، فقيل له: إن الناس قد شقَّ عليهم الصيام، وإنما ينظرون إليك فيما فعلت. فدعا بِقَدَح من ماء، بعد العصر، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة»[15]. وروي عنه أنه نهى أصحابه عن وصال الصيام رحمة بهم. فقالوا: إنك تواصل. قال: «إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني»[16]. وروى أبو هريرة قال: «بينما نحن جلوس عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكتُ! قال: ما لك؟ قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائم! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال فمكث النبي (صلى الله عليه وسلم)، فبينما نحن على ذلك، أُتي النبي (صلى الله عليه وسلم) بعَرَق فيها تمر، والعَرَق المِكتل - وعاء - قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذها فتصدق به. فقال الرجل: أَعَلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد حَرَّتَي المدينة، والحَرّة البركان الخامد - أهل بيت أفقر من أهل بيتي!. فضحك النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك»[17]. وهنا ضحك الأب ستيفانو لكلام الأعرابي وقال: ما أيسر دينكم يا أتباع محمد! * * * قلت: هذا عن رحمته (صلى الله عليه وسلم) الناسَ في عبادة الصيام، أما عن رحمته الناس في عبادة الحج، فقد كان لا يرضى لهم بأداء هذه العبادة إن لم تتوافر لهم السبل المادية والمعنوية كافة... انطلاقاً من الآية القرآنية التي نـزلت بفرض الحج: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾[18]. أما الذين يحبون المبالغة في تحمُّل مشاق هذه العبادة، فقد كان أرحم بهم منهم بأنفسهم كما هي عادته. فقد روي عنه أنه رأى شيخاً يهادى بين ابنيه، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي إلى بيت الله - الكعبة - قال: «إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني، وأمره أن يركب»[19]. وروى عقبة بن عامر قال: «نذرتْ أختي أن تمشي إلى بيت الله، وأمرتني أن أستفتي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فاستفتيته. فقال: لتمشي ولتركب»[20]. * * * وأردفتُ: لقد لخَّص (صلى الله عليه وسلم) تعليمه الناسَ الرحمةَ في العبادة بقوله: «إن الدين يُسر، ولن يُشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدُّلجة»[21]. وهذا التيسير، وهذه الرحمة في العبادة، الأصل فيهما ما جاء في القرآن الكريم، تقول الآية القرآنية: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[22]. وتقول الآية القرآنية: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾[23]. قال الأب ستيفانو: ما أجمل أن لا يحمِّل الإنسان نفسه فوق طاقته... ما أجمل أن لا يبالغ الإنسان في العبادة فينسى نصيبه الحلالَ من الدنيا.. ما أجمل أن لا تكون العبادة رهبانية.. بل تكون مشاركة في استمرار الحياة على الأرض... ما أجمل سنَّة محمد في العبادة!.