اجتمعن الثلاثة كالعادة في وقت الغروب فوق سطح المنزل القديم ... كعادة كل أطفال هذا الحي الشعبي .... حيث يصعدون للعب فوق أسطح منازلهم وخاصة مساءا ....
كانت الثلاث صغيرات يهربن كل يومٍ الى السطح منذ أن تعلمن تسلق السلالم .... جلست اثنتين منهما ( الأقرب الى بعضهما)
على الحجر الضخم الملقى على السطح ....والذي ظل مقعدهما لسنواتٍ طويلة .... حتى أطل عامهما الحادي عشر معا .... أي أصبحتا على أعتابِ الصبا ....فبدأت الطفولة تتوارى خجلا بينما تتحرك أحلامٌ وردية لتحل محلها .....
جلست أحداهما والتي تظهر عليها علامات الشقاوة والعفرتة وهي ممسكة بدفترٍ خاصٍ جدا ...تسجل فيه هي وصديقتها كل ِ ما يخصهما بكلماتٍ ذات أخطاءٍ املائيةٍ فادحة ... لكن ليس مهما ....المهم أن تسجلا الأمور البالغة الأهمية اليهما......
فتحت الدفتر و علامات الحزمِ و الجدية بادية على ملامحها الصغيرة .......ممسكة بقلمها الرصاص المبري .....أخذت نفسا ثم نظرت الى صديقتها مبتسمة.... الجالسة بجوارها بوداعة , ضامة قبضتيها في حجرها ......تنظرهي الأخرى اليها بعينيها السماويتين الرائعتين .... و خصلاتِ شعرها النحاسية الحمراء تتوهج تحت ضوء الغروب الشاحب .......ترنو بنظراتها الجانبية المبتسمة اليها و في قلبها وهج يوازي وهج قرص الشمس الغارقة في البحر
مبتسمة بغمازتيها الصغيرتين ... وكأنهما تقومان بعملٍ جلل .... فقالت ذات القلم الرصاص و الخصلات السوداء المجنونة
(حسنا .... اسمعاني جيدا .... ستكتب كلا منكما من ستتزوج , ..... و سيكون ذلك عهدا بيننا لنحققه ...... )
احمر وجه صديقتها و اتسعت ابتسامتها بينما أطرقت بوجهها أرضا .... فقالت تزفر بنفاذ صبر
( ليس هذا وقت خجل يا نوار فنحن نعرف جيدا من قررت أن تتزوجيه .... فهيا قوليها الآن لنسجل اسمه )
أصبح وجه الصغيرة نوار ذات الخصلات النحاسية الحمراء أحمرا هو الآخر كحبة الطماطم .... بينما ابتسامتها تتسع و غمازتيها تتعمقان لكنها بالرغم من ذلك قالت بوضوحٍ دون تردد
(أنا سأتزوج مالك .........)
ابتسمت صديقتها وهي تكتب بكل بساطة ... بأن نوار ستتزوج مالك رشوان يوما ما ...... ثم رفعت رأسها لتناول الدفتر لنوار ذات الخصلات النحاسية وهي تقول ( هيا امضي بنفسك ......)
أمسكت نوار الوديعة بالقلم الرصاصي وهي تكتب اسمها مبعثرا تحت سطرها الخاص ...... ثم همست برقة بابتسامة مترددة
( هل تظنين أن هذا سيتحقق فعلا يا حنين ؟....... )
نظرت اليها حنين بعينيها الشقيتين الحازمتين لتقول بتأكيد
( بالطبع سيحدث .... أنت أكثرنا من يجب أن تكون مقتنعة , فمالك يحبك ....ألم تدركي ذلك , أنتي مدللته أكثر منا ........ )
عاد وجه نوار ليحمر من جديد ......ببراءة الطفولة المتطلعةِ لأملٍ رقيق ..... ترمش بعينيها عدة مرات عابسةٍ بغضب زائف بالرغم من السعادة المنتشرة بداخل قلبها الصغير .... فقالت متلعثمة
( لا يصح هذا يا حنين ...... كفي عن ذلك الكلام الخاص بال .... بالحب و هذه الأشياء ........ )
زفرت حنين بنفاذ صبر ثم مدت يدها لتبعد الخصلات المتموجة المجنونة الحريرية عن مجال رؤيتها وهي تقول بثقة
( وما المشكلة في قول ذلك ؟...... أنا أحب أخاكِ جاسر و سأتزوجه )
لم تملك نوار الا أن تضحك أكثر .....ثم قالت برقة ( اذن هيا اكتبي ذلك و امضي باسمك تحته ........)
لم تضحك حنين بل أمسكت بالقلم و كتبت بالفعل .... بأنها ستتزوج جاسر رشيد يوما ما ....... وخطت حروف اسمها كنقشٍ تاريخي وكأنها تقسم لنفسها بذلك .....
رفعت رأسها الى الثالثة التي تكبرهما بعامٍ واحد التي كانت تمشي حافية القدمين على أطرافِ أصابعها في رشاقةٍ خلابة وثوبها الخفيف القصير يتطاير حول ساقيها الطويلتين.... تحاول أن توازن نفسها على خطٍ وهمي ..... رافعة ذراعيها أفقيا على امتدادهما لتتوازن وكأنها تسير على حبلٍ بين السحب ......
للحظاتٍ لم ترد حور عليها وهي تتباع خطواتها الساحرة ثم التفتت اليها بشعرها الطويل المتطاير ناظرة بعينيها ذات نظرةِ اللوع الفطري نظرة تنبىء بالكثير من الميوعة و الدلال ..... وغمزةٍ شعبية مسبلةِ الأجفان لا ينجح تعلُمها .... بل تسكن عيني صاحبتها بالفطرة .......
قالت حور ساخرة ( حمقاء حقا أنتِ وهي ........ وكل ما تتمنيانه لن يتحقق أبدا . الم يحن الوقت لتكبرا )
عبست كلا من نوار وحنين .... وقد نجحت هادمة اللذات في افساد اللحظة المهمة اليهما ..... فقالت حنين غاضبة بينما التزمت نوار الصمت تماما عابسة بشكلٍ مضحك ....
( حسنا فليكن أنتِ لستِ معنا ........ لكن أمنياتنا ستتحقق فلا دخل لك .......)
مطت حور شفتيها بلا مبالاة لكنها قالت بعد لحظة و حاجبها يتراقص بدلالٍ مع عينيها الملاوعتين
( من قبيل المشاركة لا غير ..... سجلي عندك أنني لن أتزوج واحدا من أبناء هذا الحي ...... بل سأتزوج أميرا )
نظرت كلا من حنين و نوار الى بعضهما بملل ..... ثم غمزت نوار الى حنين الا تعلق حتى لا تنفقع مرارتهما ......
فاكتفت حنين بتسجيل ما يخص حور كاتبةً .... ستتزوج حور من سيربيها من جديد ......... و ستنجب ستة أطفال يلتفون حول ساقيها الى أن يصيبها الجنون في النهاية .......
سألتها حور بعد أن انتهت ( هل كتبت ما قلته ؟.......)
أومأت حنين برأسها مبتسمة بسعادة قائلة (؛ بالطبع .......)
حين أوشك الظلام أن يحل من بين الألوان المتباعدة للسماء ... سمعن الثلاثة أصوات أقدامٍ معروفة تصعد سلالم السطح فلكزت حنين نوار بمرفقها غامزة بعينيها ضحكت نوار بخجل .... لتسارع حنين بتخبئة دفترهما الخاص في درج الطاولة القديمة ذات الساق المكسورة و الملقاة على السطح ........
دخل في نفس اللحظة شابٌ جميل الملامح مبتسم الوجه دائما ...... ليخفق قلب نوار كالعادة باطلالة الصبي ذو الستة عشر عاما .... و الذي ينظر اليها وحدها دون غيرها ما أن يدخل السطح ..... وللحظاتٍ تاهت نظرتهما البريئة ببعضهما .... الى أن اقترب من حور ليجذبها من عنقها بذراعه الي صدره مداعبا إياها بخشونةٍ مبعثرا شعرها .... فصرخت كالعادة بحنقٍ وهي تتحرر من ذراعيه وحنين و نوار تضحكان كعادتهما .... ليهنأ باله وتقر عينه برؤية غمازتيها الرائعتين .......
كم أحببنه الثلاثة .... حور و حنين .... ونوار .... بلعبه معهن .... بحمله لهن على أكتافه الرياضية .... بقصصه التي لا تنتهي عن تلك الدنيا و هن ينصتن مسحوراتٍ بسحره ......
التفاتة ..... كل ما يتطلبه الأمر التفاتة ..... لتضيع حياة شخص . وتموت روح آخر .... لتنهار الدنيا من أمامِ أعينٍ مصدومة .....
التفاتةٍ التفتها ضاحكا يريد أن يخبرهن بما أراد بعد لعبهم الطويل ..... ليصمت دون القدرة على النطق .... على التنفس .... ليتوقف قلبه بينما اتسعت عيناه رعبا وهو يراها تقف على سور السطح .... رافعة ذراعيها الناعمتين لتوازن نفسها ..... مبتسمة للسماء مبتسمة للأحلام ..... و شعرها النحاسي يتطاير من حول وجهها المنتعش ........
الرواية منقولة
لصاحبتها "tamima nabil"
أحببت مشاركتكم قراءتها