عن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: "ما هذان اليومان؟!" قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكما بهما خيرًا منهما؛ يوم الأضحى ويوم الفطر". وعن عائشة قالت: (دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان، تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعهما". تقول: فلما غفل غمزتهما فخرجتا). وفي رواية: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيد، وهذا عيدنا".
وأذن النبي صلى الله عليه وسلم للسودان أن يلعبوا بالدَّرق والحراب في مسجده، وقال لعائشة: "تشتهين تنظرين؟" قالت: نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول: "دونكم يا بني ارفد". وفي رواية: "لتعلم يهود أن في ديننا فُسحة".
فما هي النظرة الصحيحة للعيد؟ وماذا يجب أن يكون عليه المسلم في العيد؟
هذا ما أرجو أن تكون الإجابة عليه في هذه الكلمات اليسيرة، وحتى نلمَّ شعث الحديث ونجمع شتاته نعرض له في عدة قضايا.
القضية الأولى: العيد تأكيد لتميز المسلم عن المشرك والكافر، واستغنائه بالشرع المبارك عن عادات الشعوب البائدة وتقاليد الأمم الماضية: "قد أبدلكما بهما خيرًا منهما؛ يوم الأضحى ويوم الفطر"، "هذا عيدنا". نعم هذا عيدنا، خير مما هم فيه من اللهو واللعب مع الغفلة والإعراض، أما عيدنا فهو مزيد اتصالٍ بالله، فهو نفحة قدسية ورحمة إلهية، نفتتحه بالتكبير والذكر والصلاة والشكر لله على تمام عدة الصيام {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 185].
القضية الثانية: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة شريدًا طريدًا، حتى إذا وافاه العيد في المدينة لم يشاء أن يقتل البسمة أو يقضم الشفاه أو يطبق الأفواه. بل أعلن فرحة العيد وأظهر سروره به، مع أنه يلاقي ما يلاقي من كيد الأعداء ومكرهم! لكنها العزائم القوية والنفوس الكبيرة، حيث تجد متسعًا للفرح برحمة الله وفيضه، وإن عظمت فيها الجراح وتتابعت عليها الضربات.
أليس يهزك الفرح حين تسمع بانتصار المسلمين في مكانٍ، مع أن جراحاتهم في أماكن أخرى ما زالت ملتهبة، ودماءهم ما زالت نازفة؟! بل إن المسلمين يفرحون في الغزاة الواحدة بالنصر الذي يحرزونه, مع أنهم قدموا في الغزاة نفسها دماءً وأشلاء. نقول ذلك لأناسٍ يريدون منا أن نقضم شفاهنا ونقتل في نفوسنا كل فرحة، ونطفأ كل بسمة، يريدون أن تتحول أفراحنا إلى مناحات - وإن كان ذلك منهم بحسن نية- لكن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. لسنا نريد من وراء هذا الكلام أن ننسى الجراح التي يعيشها إخواننا في أصقاع المعمورة، لكن نريد أن نفرح بفضل الله ورحمته: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58].
إن التزام المسلم للحزن والكآبة كل حين من شأنه أن يقعد النفوس عن العمل، وأن يوقف الدم عن الحركة، والذهن عن الفكرة، فلا نستطيع بذلك أن نحرز نصرًا، أو نُشبع جوعة، أو نغيث لهفة، وإنما نزيد الطين بلة، ونضع ضغثًا على إبالة. قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أريحوا القلوب؛ فإن القلب إذا أكره عمي". ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل -غير المحرم- فيكون أقوى لها على الحق".
القضية الثالثة: في مشروعية الفرح بالعيد في هذين اليومين بعث للأمل في الأمة، وإحياء للتفاؤل فيها، فَفَرْحة العيد تلقي في روعنا أن أيام الحزن مهما امتدت سيأتي بعدها يوم فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، سيأتي يوم تشرق الدنيا بعز الإسلام وعلو أهله؛ فالعسر يتبعه اليسر, والشدة يتلوها الفرج، وبعد الحزن يأتي الفرح.
يأتي العيد فنفرح وتشرق نفوسنا بالأمل، ونتعلم من هذا الفرح أن أمتنا ما زالت قوية متينة، فهي تستطيع أن تفرح مع أنها مثخنة بالجراح، وسيأتي يوم تشفى من جراحها، وتضاعف فرحتها بالعيد.
إن تكبيرنا في العيد يملأ نفوسنا اعتزازًا، ونؤمن أنه ليس أكبر من الله ولا أقوى منه (وهو الكبير المتعال). ونحن المكبرون جند الله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
إنه الأمل المشرق كلما أشرق العيد.. فأبشروا وأمّلوا؛ فعُمر الإسلام أطول من أعمارنا، وأفقه أوسع من أوطننا، وما كان لعدو أن يحيط بالإسلام فيطفئ نوره: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
القضية الرابعة: العيد فاصل ضروري في حياة المسلم، يُرَوِّح به عن نفسه من ثقل العمل المتتابع الجاد، ليعود إلى الجادة مرة أخرى أجود ما يكون وأكمل رغبة ونشاطًا. إلا أن هذا الترويح الذي يزاوله المسلم في العيد لا يصح أن يخرج به عن حدود الشرع، وأن يوقعه في الأشر والبطر، فيضل ويخزى..
- إذ لا يصلح أن تلهينا فرحة العيد فنغفل في زحمتها عن ذكر الله وعن الصلاة.
- ولا يصح أن يكون فرحنا بالعيد على حساب أذية الآخرين وإلحاق الضرر بهم؛ لا في أبدانهم ولا أولادهم أو ممتلكاتهم وسيارتهم؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلمًا".
- لا يصح أن تتحول فرحة العيد إلى غناء ماجن وسهرات راقصة، أو جلسات غنائية لاغية، يستدر بها غضب الله بعد أن كانوا يتقلبون في روضات رضاه، فنكون كما قال الله: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92].
- لا يصح أن يكون العيد فرصة اختلاط بين الرجال والنساء، أو تكشُّف وسفور وغزل ممقوت، والله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، ويقول: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31]. قال بعض أصحاب سفيان الثوري خرجت مع سفيان -رحمه الله- يوم العيد، فقال: إن أول ما نبدأ به يومنا هذا غض البصر.
- لا يصح أن نبذر في العيد تبذيرًا، في موائد ينقطع منها البصر، أو مسابقات تذهب الممتلكات وتوقع النفس في الحسرات. إنه حين يتحول العيد إلى مثل هذه التصرفات المنحرفة والأحوال الغافلة فإنها تصبح بذلك مجالس لهو ولعب وغفلة، لا يجوز للمسلم أن يسهم فيها أو يمتع ناظريه بحضورها؛ لأن الله حكم وقضى فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
ولأن جلوسك مع الغافلين ولو للفرجة فيه إعانة على الباطل. عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه دُعي إلى وليمة، فلما جاء ليدخل سمع لهوًا، فرجع، فقيل له في ذلك، فقال: "من كثَّر سواد قوم فهو منهم، ومن رضي عمل قوم كان شريكًا في عملهم".
هذا عيدنا أهل الإسلام ذكر ودعاء، وأنس وصفاء، وروح وهناء، وحب ووفاء، وعلو وأمل.